التنبؤ بالزلازل .. حلم يراود علماء الجيولوجيا منذ القدم

في يونيو/ حزيران 1974 أمرت السلطات الصينية باتخاذ تدابير وقائية في عدة مناطق حول مدينة هايتشنغ غربي الصين، بما في ذلك الإخلاء القسري لبعض المنازل وبناء هياكل حديدية وإسمنتية للبعض الآخر، وعرض الأفلام في الهواء الطلق لا في داخل السينما، واستمرت تلك الإجراءات عدة أشهر، وقالت السلطات الصينية إن دراسة النشاط الزلزالي و التنبؤ بالزلازل في المنطقة تشير باقتراب زلزال.

التنبؤ بالزلازل

وفي فبراير/ شباط 1975 ضرب المدينة زلزال قوته 7.3، وبحسب التقارير الصينية فإن تلك الإجراءات ساعدت في حماية ملايين الصينيين من الموت وأبقت عدد الوفيات عند 300 شخص تقريبا. وتجولت الأخبار في العالم كله عن قدرة الصينيين على التنبؤ بالزلازل، لكن مع الأسف لم تطلعنا الصين على كثير من البيانات المتعلقة بالأمر، كما أنها لم تتمكن من صد أي زلزال تال لزلزال هايتشنغ، بما في ذلك زلزال بقوة 7.6 ضرب منطقة بتانغشان شرقي الصين كذلك في الساعة 3:42 فجرا في 28 يوليو/ تموز 1976.

ففي غضون دقائق، انهارت 85% من المباني في تانغشان أو أصبحت غير صالحة للاستخدام، وتعطلت جميع الخدمات، وانهارت معظم جسور الطرق السريعة والسكك الحديدية أو تعرضت لأضرار جسيمة، وأعلنت السلطات وفاة قرابة 250 ألف شخص وإصابة حوالي 160 ألف بشكل خطير

في سبعينيات القرن الماضي، كان لدى علماء الجيولوجيا أمل كبير بأن فشل الصين لا يعني فشلا نهائيا، وأننا ربما خلال عدة عقود سنتمكن بدقة من تحديد المعايير الثلاثة للتنبؤ بالزلازل بدقة شديدة، وهي وقت حدوث الزلزال، وقوة الزلزال، وموضعه على الأرض. لكن مع وصولنا للتسعينيات والعقد الأول من الألفية، تبين للعلماء أن التنبؤ بالزلازل مهمة في غاية التعقيد.

ولفهم الأمر نحتاج أن نتعلم ما يعنيه الزلزال من الأساس. فلو تخيلنا أن كوكب الأرض هو حبة تفاح، فإن الغلاف الصخري لها هو القشرة، ويبلغ سمكه 10-70 كيلومترا بحسب الموضع، ويختلف الغلاف الصخري عن قشرة التفاحة في أنه ليس قطعة واحدة تغطي الأرض، بل يتكون من عدد من القطع المتداخلة معا، كما تتداخل قطع الأحجيات الورقية، وتسمى تلك القطع بالصفائح التكتونية.

فوقها بالأعلى. أضف لذلك كله أن أثر الجاذبية الأرضية يختلف من مكان لآخر في طبقات الأرض.

وتتحرك تلك الصفائح بالنسبة لبعضها ببطء شديد، فقد تتباعد أو تتقارب، وقد تنزلق بالنسبة لبعضها، وفي بعض الأحيان لا يكون الأمر بهذه السلاسة، فبينما تنزلق الصفائح التكتونية قد يعلق بعضها في بعض، بسبب بروزات صخرية في أي منطقة على ارتفاع الحدود بين الصفائح، وهنا تختزن تلك البروزات الصخرية كمّا من الطاقة بسبب أنها تعيق انزلاق الصفيحتين التكتونيتين، وفي لحظة ما تنفك تلك الإعاقة بتكسير الصخرة، ويتسبب ذلك في حدوث الزلزال.

وكما تلاحظ فإن سُمك الصفائح التكتونية يمتد لعشرات الكيلومترات، ومحيطها يمتد لعشرات الآلاف من الكيلومترات، وتختلف طبيعة الصخور نفسها من مكان لآخر، وقد تكون أكثر رطوبة أو جفافا، وتؤثر فيها عوامل مثل درجات الحرارة ومدى قربها أو بعدها عن الطبقة الثانية للأرض (الوشاح)، وطبقة الوشاح نفسها تتنوع في درجات الحرارة والرطوبة واللزوجة بدرجة تؤثر بشكل متنوع على القشرة السابحة فوقها. أضف لذلك كله أن أثر الجاذبية الأرضية يختلف من مكان لآخر في طبقات الأرض.

وتتجمع تلك العوامل معا لتجعل التنبؤ بالزلازل شبه مستحيل، لأن ذلك يعني أن التنبؤ الدقيق بالزلازل يتطلب رسم خرائط وتحليلات موسعة لكل مكان في قشرة الأرض، وما يقع أسفلها من طبقات، وعلى كل ارتفاع.

مع أن الأمر يبدو أقرب إلى المستحيل، فإن محاولات العلماء لم تتوقف، فقد لاحظ فريق منهم مثلا أنه قبل حدوث الزلازل، فإن البيئة في موقع الزلزال تشهد بعض التغيرات مثل زيادة تركيزات غاز الرادون، وهو غاز يتكون من التحلل الإشعاعي لبعض المركبات الموجودة في الصخور، وقد تصور العلماء أن الشقوق الصغيرة التي تنشأ في الصخور قبل حدوث الزلزال تغير من نفاذية باطن الأرض، ويهرب الغاز إلى السطح، حيث يمكن اكتشافه.

وفي العقد الماضي، خلصت بعض الدراسات إلى أن التركيزات المرتفعة لغاز الرادون في التربة أو المياه الجوفية، يمكن أن تكون علامة على وقوع زلزال وشيك.

وعلى الرغم من أن بعضا من الباحثين استخدم هذه الطريقة للتنبؤ بزلزال “لاكويلا” في إيطاليا عام 2009، فإن هذا النجاح لم يتكرر في مرات تالية، ولذلك فإن معظم العلماء ما زالوا متشككين في صحة هذه الطريقة.

لاحظ الناس منذ قديم الزمان أن الحيوانات قد تتأثر باقتراب الزلازل، بل إن بعض الدراسات رصدت هذا السلوك، فقد ربط باحثون من معهد “ماكس بلانك” لسلوك الحيوان أجهزة تفحص سلوك الأغنام والكلاب والأبقار في مزرعة إيطالية على مدى شهور، وقد أبلغت السلطات المختصة خلالها عن وقوع أكثر من 10 زلازل فقط بقوة 4 درجات على المقياس أو أعلى.

وبحسب هذه الدراسة التي نشرها الفريق في دورية “إيثولوجي” في 2020، فقد تبين أن الحيوانات أظهرت أنماطا سلوكية غير معتادة قبل حوالي يوم كامل من حدوث الزلزال، واستمرت لمدة ثلاثة أرباع الساعة، وأظهرت الدراسة كذلك أنه كلما اقتربت الحيوانات من مركز الزلزال، فإن سلوكها الغريب يكون أوضح، وكانت تبدأ في ذلك مبكرا قبل أقرانها البعيدة عن مركز الزلزال.

لكن ما زالت الكيفية التي يحدث بها ذلك الأمر غير واضحة بالنسبة للعلماء، والأهم أنه على الرغم من أن بعض الدراسات قد رصدت استجابة الحيوانات للزلازل، فإنها لم تستجب بشكل صائب في كل مرة، ففي بعض الأحيان استجابت الحيوانات ولم تقع زلازل، وفي بعض الأحيان لم تستجب ووقع الزلزال، ولذلك فإن استخدامها للتنبؤ بالزلازل لم يكن مفيدا بأي شكل، ربما حتى الآن.

هناك بعض الملاحظات الأخرى تتعلق بأضواء الزلازل، ففي بعض الأحيان تُلاحظ ظواهر مثل البرق والتوهجات في السماء بالاقتران مع الزلازل وبالقرب من مركز الزلزال، وتسمى أضواء الزلازل، وإلى الآن يختلف الجيوفيزيائيون في تصورهم حول صحة تلك الظاهرة، فقد تكون التقارير الفردية للإضاءة بالقرب من الزلزال راجعة لأي شيء مثل مشاكل خطوط الكهرباء، وقد تكون صحيحة.

وفي حالة صحتها فإن العلماء لا يعرفون أسباب تلك الظواهر، ويقترح فريق منهم أن تلك الأضواء قد تكون ناتجة عن الشحنات الكهربائية التي تنشط في أنواع معينة من الصخور أثناء النشاط الزلزالي الذي يضغط على تلك الصخور.

واقترح فريق آخر أن ضغط الصخور في الزلازل يخلق ما يسمى التأثير الكهرضغطي، إذ تنتج الصخور الحاملة للكوارتز مجالات كهربائية قوية عند ضغطها بطريقة معينة، ويتصور فريق ثالث من العلماء أنها تفاعلات بين مركبات الغلاف الجوي وغازات خرجت من شقوق أحدثتها الزلازل قبل أو أثناء تكونها.

لكن مع الأسف، حتى بافتراض صحة تلك الظاهرة، فإنها لا يمكن أن تستخدم للتنبؤ بالزلازل، أولا لأنها لا تظهر في كل الزلازل، وثانيا لأن تلك الأضواء قد تظهر ولا تحدث زلازل، أو قد تحدث زلازل ولكنها لا تظهر، ولذا لا يمكن استخدامها أداةً في هذا النطاق.

ثمة خرافات يتداولها الناس حول الزلازل، إذ يتصورون أن البعض يصاب بأعراض مثل الغثيان أو الصداع أو اضطراب البصر قبل وقوع الزلازل، لكن لا توجد أي دراسات تؤكد هذه الظاهرة، وقد يكون الأمر أنه حينما يصاب البعض بأعراض مثل الغثيان أو حرقة المعدة، ثم يحدث زلزال، فإنه قد يربط هذا بذاك.

وتعرف “حساسية الزلازل” بأنها حالة تحدث لبعض الأشخاص، إذ يمكنهم أن يمتلكوا حساسية تجاه ضربات الزلازل الوشيكة، وتتجلى في الأحلام أو الرؤى أو المشاعر العنيفة أو الأعراض الفسيولوجية مثل طنين الأذن أو الغثيان أو غيرها من الأعراض.

ويشير المروجون لتلك الفرضية أنها تحدث بسبب الحساسية للمجال الكهرومغناطيسي أو انبعاثات بعض الغازات التي قد تصحب الزلازل، لكن في النهاية لا يوجد دليل علمي موثوق على مثل هذه الآثار، ولا أي نظرية حول كيفية إدراك هذه الآثار، وتعد الحساسية للزلازل علما زائفا بالكامل.

ومن العلوم الزائفة في هذا النطاق أيضا تصور وجود علاقة بين محاذاة الكواكب والزلازل، وقد اشتهرت هذه النوعية من الادعاءات بكثافة بعد زلزال تركيا وسوريا في فبراير/ شباط 2023، بعد ادعاءات الهولندي “فرانك هوغربيتس” الذي يعرّف نفسه على أنه خبير زلازل. فقد كتب قبل الزلزال المدمر أنه يتوقع حدوث زلزال في منطقة تقع بين سوريا وتركيا عاجلا أم آجلا، مما أثار انتباه العالم له.

ويستخدم “هوغربيتس” طريقة محاذاة الكواكب في التنبؤ بالزلازل، وهي القول إن أوضاع الكواكب في السماء حينما تكون باتجاه واحد بالنسبة للأرض يمكن أن تكون أداة للتنبؤ بموعد الزلازال، لكن المشكلة أن العلماء منذ السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت قد كانوا متفقين على أن محاذاة الكواكب لها تأثير طفيف جدا على الأرض لا يمكن أن يصل إلى درجة إحداث الزلازل، ببساطة لأن تلك الكواكب بعيدة جدا عن الأرض، بل إن القمر الصغير جدا مقارنة بتلك الكواكب قريب جدا من الأرض مقارنة بها، لدرجة أنه يمتلك أثرا أقوى منها مجتمعة، وهو ما يتضح لنا في حالة المد والجزر.

وإلى الآن لا تُجمع الدراسات الموثوقة في هذا النطاق على صحة العلاقة بين الكواكب بالأعلى والزلازل بالأسفل. وبالنسبة لـ”هوغربيتس”، فعلى الرغم من صحة تنبؤاته في زلزال تركيا وسوريا، فإنه يتنبأ بالزلازل كل يوم تقريبا عبر حسابه على تويتر وعدة منصات أخرى، لذا فمن المحتمل أن تكون حادثة التنبؤ بزلزال تركيا وسوريا مجرد صدفة، خاصة أنه لم ينجح في التنبؤ بكثير من الزلازل الأخرى التي حصلت إلى الآن. فالأرض بطبيعتها تشهد ما بين 1500-2500 زلزال سنويا فوق 5 درجات على المقياس.

بحسب هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية، فإنه لم يتمكن أحد إلى الآن من امتلاك القدرة على التنبؤ بالزلازل، وكل الادعاءات التي تنتشر من حين لآخر وتتعلق بالقدرة على التنبؤ بالزلازل؛ إما أنها لا تستند إلى أدلة علمية، أو أنها لا تحدد العناصر الثلاثة المطلوبة للتنبؤ (الوقت، القوة، الموقع)، فتكون عامة جدا لدرجة أنه سيكون هنالك دائما زلزال مناسب.

وتضيف الهيئة أن كل ما يمتلكه العلماء حتى اللحظة هو فقط درجات من الاحتمال، فيُحتمل مثلا أن يضرب ولاية كاليفورنيا زلزال كبير على أي نقطة في فالق سان أندرياس خلال ثلاثة عقود بنسبة حدوث 72%، وتنخفض النسبة إلى نحو 30% في بعض المناطق في اليابان، وكلاهما يقعان في منطقة نشاط زلزالي مرتفع.

ويجري الأمر نفسه على بقية المناطق الواقعة على حزام “حلقة النار” و”الحزام الألبي”، أما الأول فهو شريط جغرافي طوله نحو 40 ألف كيلومتر، ويشبه حدوة الحصان، ويمتد حول المحيط الهادئ، بداية من جنوب قارة أمريكا الجنوبية، وينطلق بعد ذلك صعودا في أميركا الشمالية بمحاذاة جبال روكي إلى ألاسكا، ثم عبر مضيق بيرنغ إلى اليابان نزولا إلى الفلبين وإندونيسيا، ثم في النهاية نيوزيلندا.

والثاني يمتد لأكثر من 15 ألف كيلومتر، بداية من جاوة وسومطرة، ثم عبر شبه جزيرة الهند الصينية، ثم جبال إيران والقوقاز والأناضول وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط، وحتى المحيط الأطلسي. وكلا الحزامين مسؤول عن 98% من زلازل العالم الكبرى.

لم تمنع كل تلك العوائق العلماء من مواصلة العمل للتوصل في يوم ما إلى القدرة على التنبؤ بالزلازل. ففي يونيو/ حزيران 2023 مثلا، أعلن فريق بحثي فرنسي أن تحليلا لما يقرب من 100 زلزال كبير في جميع أنحاء العالم يقدم دليلا على وجود مرحلة تمهيدية لانزلاق الصفائح التكتونية قبل ساعتين من التمزق الزلزالي.

وبحسب الدراسة التي نشرها هذا الفريق في دورية “ساينس” المرموقة، فإنه إذا أمكن التأكد من أن الزلازل الكبرى تتضمن تمهيدية مدتها ساعتان فإنه يمكن تطوير وسائل لقياس هذه التغيرات، ثم تطوير أدوات لإعطاء إنذارات قبل وقوع الزلازل بفترة ستكون على الأقل كافية لحماية الأرواح.

ويأمل فريق آخر من العلماء أن تتمكن قدرات الذكاء الصناعي من فهم كل التعقيد الكامن في القشرة الأرضية عبر تجميع البيانات والبحث عن أنماط خلالها، وكان فريق من الباحثين قبل عدة سنوات قد تمكن -بعد الاستماع إلى الإشارة الصوتية المنبعثة من زلزال أنشئ في المختبر- من استخدام التعلم الآلي للتنبؤ بالوقت الباقي قبل حدوث الزلزال.

وبحسب الدراسة التي نشرها هذا الفريق في دورية “جيوفيزيكال ريسيرتش ليترز”، فإن الضوضاء القادمة من منطقة الصدع في المختبر قبل حدوث الزلزال قد وفرت معلومات حول موعد انزلاق الصفائح التكتونية. لكن كل تلك الدراسات وآلاف غيرها نشرت حتى لحظة كتابة هذه الكلمات، لم تتمكن بعد من تطوير طريقة تقي الناس من هذه الكوارث المروعة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *