في عام 1854، عرفت الدولة العثمانية طريق الديون لأول مرة على يد الدائنين الأوروبيين من أجل تمويل حربها مع روسيا، ومنذ ذلك الحين دخلت إلى لعبة كراسي الديون الموسيقية، ديون جديدة لسداد ديون قديمة، وهي لعبة أغوتها بها الدول الأوروبية رغم إدراكها عدم قدرة الأستانة على سداد ديونها بسبب بنية اقتصادها القائم على الاستيراد بالأساس لا التصدير. وقد حوَّلت تلك اللعبة إيرادات السلطنة مباشرة إلى البنوك الأوروبية لا إلى خزائنها، ومن ثم باتت الرغبة في إصلاح الاقتصاد أمنية بعيدة المنال. وقد انتهت اللعبة على كل حال بانهيار الدولة العثمانية، ولكن سرعان ما تكرَّرت قصة الفشل الاقتصادي في الكثير من الدول القومية حديثة النشأة، لا سيما تلك التي خرجت من عباءة دول كبرى، كإمبراطوريات العثمانيين، والهند البريطانية، والنمسا والمجر.
باكستان
في العام الحالي، ومع أصداء الحرب الروسية الأوكرانية وعواقب جائحة الكوفيد وسياسات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، أصبحت العديد من الدول الغارقة والمعتمدة على الديون تواجه حلقة أشد قتامة من كل ما رأته سابقا، إذ زادت ديون الدول النامية بأكثر من الضِّعْف خلال العقد الماضي ووصلت إلى 9 تريليونات دولار، ومن المتوقع في هذا العام بحسب البنك الدولي أن تغرق 60% من أفقر دول العالم في أزمة ديون، إن لم تكن غارقة فيها بالفعل. وباكستان هي واحدة من تلك الدول التي تواجه عبء الديون الآن، ويخشى المحللون الاقتصاديون من انهيارها. ومثلها مثل الكثير من نظرائها في العالم النامي، عليها التوسُّل للمؤسسات الدولية المانحة والدول الصديقة، وأن تبتلع وصفة صندوق النقد الدولي المُرَّة كي يَقبل باستئناف برامج مساعداته المالية من أجل تجنب التخلف عن سداد الديون، ما يعني إنذارا لأعداد مهولة من فقراء البلاد بالهلاك المحتوم سواء تجرَّعت إسلام أباد الدواء المُرَّ أو لم تتجرَّعه.
تعاني باكستان من أزمة ديون مزمنة، لكن صناع القرار لطالما اعتقدوا أن بلادهم أكبر من أن تفشل أو أن يسمح العالم بفشلها، بسبب موقعها والدور الذي تلعبه في جنوب آسيا، علاوة على كونها دولة مُسلَّحة نوويا، وخامس أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان. وقد اعتمدت باكستان على الدعم الخليجي من حين إلى آخر، لكنها فوجئت بعد سنوات أن بعضا من أهم المانحين في الخليج غيَّروا إستراتيجيتهم الخاصة بالمِنَح المالية، بعد أن قرروا أنها تُعزِّز ثقافة الاعتماد لدى الدول المُتلقية للمساعدات، فلا تُحدِث تغييرا جادا في بنية اقتصادها. ورغم أن المملكة العربية السعودية، الداعم المالي الأبرز للبلاد، لا تزال تزيد من استثماراتها في باكستان، لكن تغيُّر إستراتيجيتها تجاه المعونات المالية يثير قلق الدولة الجنوب آسيوية تجاه المستقبل.