ما أوجه الشبه بين فشل الاستخبارات الإسرائيلية عام 1973 وفشلها عام 2023؟ تجادل أستاذة العلاقات الدولية بجامعة كولومبيا “كيرين يارهي-ميلو” والمؤرخ “تيم نافتالي” أن العامل المشترك في المناسبتين لم يكن -على الأرجح- نقص المعلومات الاستخباراتية، ولكن جودة التحليل والانحيازات المسبقة للمحللين والقادة السياسيين. ويشير الكاتبان إلى أن الاحتلال وقع في الفخ نفسه مرة أُخرى حين قلل من رغبة أو قدرة حركة حماس على شن هجوم واسع النطاق، تماما كما قلل من عزيمة السادات وقدرته على دخول الحرب قبل خمسة عقود.
الاستخبارات الإسرائيلية
تبدو التشابهات واضحة وضوح الشَمس. هجوم مفاجئ على إسرائيل وهي في غفلة من أمرها، وقوة عسكرية تُهاجم من الجهة الأخرى، وتوقيت يُقابل عيدا دينيا يهوديا في أول أكتوبر/تشرين الأول، وقتلى أُخِذوا على حين غِرَّة فتفرَّقوا بحثا عن ملاجئ من القصف ثم استعدوا من أجل الحرب، وأخيرا أخطاء من الأجهزة الاستخباراتية التي يُفتَرَض أنها من الأرفع شأنا في العالم.
بيد أن الهجوم المُفاجئ الذي وقع في إسرائيل في بداية هذا الشهر يبدو أشد وطأة من ذلك الذي واجهته دولة الاحتلال قبل خمسين عاما أثناء حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول. فقد قتلت حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة عددا أكبر من “المدنيين الإسرائيليين” في أيام الحرب الأولى مقارنة بعدد القتلى الذين تسبَّبت فيهم حرب مصر وسوريا على إسرائيل عام 1973، وهُما دولتان كاملتا السيادة تمتلك كلٌّ منهما جيشا وطنيا. علاوة على ذلك، ضربت حماس أهدافا في عُمق إسرائيل، ويبدو من حجم وتعقيد الهجمات التي أصابت أهدافا عديدة وانخرط فيها آلاف المقاتلين أن الهجوم كان قيد التخطيط طيلة أشهر إن لم يكن أطول من ذلك. لقد كان من المُفترض أن يكون جمع المعلومات الاستخباراتية من غزة أسهل بالنسبة لإسرائيل، حيث تملك دولة الاحتلال بالفعل أنظمة رقابة ضخمة لا تُقارن بما استخدمته مع مصر وسوريا في مطلع السبعينيات. كيف أمكن لإسرائيل إذن أن تفشل في اكتشاف مُخطَّط هجوم حماس الأخير؟
تشير التفسيرات الأولى لما جرى من جهة الخبراء والصحافيين إلى أن المشكلة على الأرجح تتعلَّق بجمع المعلومات الاستخباراتية من جانب إسرائيل. فلعل تل أبيب قد اعتمدت أكثر من اللازم على المصادر الإلكترونية لرصد التحرُّكات في غزة، التي تعلَّمت حماس كيف تتخفَّى منها، على سبيل المثال باستخدام الطائرات المُسيَّرة لتعطيل الأنظمة الإلكترونية على الحدود بين القطاع ودولة الاحتلال. وهناك احتمال ثانٍ، وهو أن إسرائيل افتقدت ببساطة المصادر الحيَّة من أهل القطاع، أو المصادر المُوثوقة بما يكفي، التي زرعتها داخل الدائرة الضيقة لرئيس الحركة “إسماعيل هنية”، كما افتقدت إلى القدرة على الوصول إلى خطط “محمد الضيف”. وتقول نظرية ثالثة إن الاستخبارات الإسرائيلية شُغِلَت بتهديدات متنوِّعة، حيث تمركزت معظم قواتها قُرب الضفة الغربية قُبيَل هجوم حماس. وأخيرا، من المُمكِن أن تكون حماس قد استخدمت وسائل الخداع، وأقنعت تل أبيب بأنها مُستعِدة للتعايش مع خطط التطبيع الإسرائيلي التي كانت جارية مع عدد من الدول العربية مؤخرا.
بيد أن الإخفاقات الاستخباراتية يمكنها أن تنبع أيضا من عدم القدرة على تخيُّل سيناريوهات مُحدَّدة. إن التشتُّت والبطء الذي ظهر في رد إسرائيل يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول يشي بقوة بأن قادة دولة الاحتلال السياسيين والعسكريين يعانون من الالتباسات النفسية نفسها التي عانت منها رئيسة الوزراء الإسرائيلية “غولدا مائير” ومستشاروها وكذلك بعض مسؤولي الحكومة الأميركية عام 1973. ففي كلتا الحالتيْن، يظهر لنا أن قادة إسرائيل أساؤوا قراءة أعدائهم العرب، وهوَّنوا بشِدة من قدرتهم على المخاطرة، وبالغوا في تقدير قدرتهم الخاصة على الردْع. إن ذلك القصور الذهني يُمكنه أن يعمي أي جهاز استخبارات حديث، مهما كان مستوى تطوُّره وأيًّا كانت الحكومة التي يتبع لها. دعونا نَعُد إلى أخطاء تل أبيب في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973، ونمر على بعض الوثائق التي أتيحت للعامة العقد الماضي، التي يمكن لها أن تمنحنا سياقا تاريخيا مفيدا للتفكير في صدمة هجوم حماس الأخير.
على مدار الأشهر المؤدية إلى مفاجأة حرب أكتوبر، تلقت إسرائيل سيلا من التحذيرات بشأن وقوع هجوم محتمل. لقد كان السادات يشُك في البداية في قدرة الجيش المصري على شن عملية عسكرية واسعة تطرد القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي التي احتلتها عام 1967، إذ إن القوات الجوية الإسرائيلية كانت قوية جدا في ذلك الوقت. غير أنه بحلول عام 1972، بدأ الرئيس المصري يُغيِّر رأيه، وطرد الخبراء العسكريين السوفييت الذي ساعدوا في إعادة بناء الجيش المصري، وجنحوا إلى الحذر والحيطة حيال تحدِّي إسرائيل بشكل مفتوح. بعد ثلاثة أشهر، أبلغ السادات القيادة العسكرية أن الوقت بات مواتيا لعبور قناة السويس واستعادة معظم مساحة شبه جزيرة سيناء، وكان هدفه حينئذ تغيير السياسة في الشرق الأوسط عبر استعادة مصر هيبتها في المنطقة وكسر شعور إسرائيل بالتفوُّق على جيرانها. حين أبدت القيادة العسكرية المصرية تحفُّظها على إستراتيجية السادات الجديدة، أُقيل نصفها، ومن ثمَّ أصبح الجيش المصري جاهزا للهجوم بحلول أبريل/نيسان 1973.
وفقا للباحث “أوري جوزيف”، المتخصص في الاستخبارات الإسرائيلية أثناء حرب أكتوبر، فإن أحد المتصلين بتل أبيب، وهو “أشرف مروان” مستشار السادات وزوج ابنة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، شارك مع الإسرائيليين خطط الرئيس المصري أواخر عام 1972 وأوائل عام 1973. وقد أتى الإنذار الأول في أبريل/نيسان 1973، حين اتصل أشرف مروان بالموساد وقال إن الجيش المصري سيعبر قناة السويس في مايو/أيار. وأخذت غولدا مائير ووزير دفاعها “موشيه ديان” الرسالة على محمل الجد، متجاهليْن اللواء “إيلي زعيرا”، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، الذي قال إن السادات كان يفتقد إلى الشروط التي تُمكِّنه من دخول الحرب. وفي تلك الأثناء، أمر ديان القوات الإسرائيلية بالاستعداد من أجل الحرب.
رغم ذلك، أجبرت سوريا السادات على تأجيل موعد الهجوم بسبب عدم جاهزيتها للحرب في ربيع 1973، ومن ثمَّ حين أتى شهر مايو/أيار ولم تندلع الحرب، ارتفعت مصداقية “زعيرا” في إسرائيل، في حين تراجعت أهمية الموساد ومصادره، بما في ذلك صلته الوطيدة بأشرف مروان. ما من دليل على أن إسرائيل مرَّرت المعلومات السرية التي حصلت عليها من أشرف مروان إلى واشنطن، لكن إدارة نيكسون الأميركية راقبت الوضع عن كثب عن طريق مصادرها الخاصة، واستشعرت بأن هناك أزمة تلوح في الأفق. في يوم 2 مايو/أيار، وفي أحد التقارير اليومية من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) إلى الرئيس نيكسون، ورد أنه “من الممكن أن يعتقد السادات بأن العمل العسكري وحده هو الطريق لتحريك الأوضاع باتجاه تسوية، وأن تحرُّكات مصر الأخيرة لعلها استعدادات من أجل هذا الاحتمال”. لكن واشنطن ظلت تتشكَّك في حدوث هذا الاحتمال.