مذبحة الفجر ومصداقية واشنطن

جاءت المذبحة وسط نداءات دولية لوقف الحرب الظالمة على سكان غزة، وبعد ساعات من قرار نتنياهو إرسال الوفد المفاوض، والنتيجة هي أكثر من مئة شهيد وعشرات الجرحى.. الطائرات قصفت والفلسطينيون يؤدّون صلاة الفجر جماعة، كلهم من النازحين من المناطق الأخرى في غزة، قتلتهم الذخائر العسكرية الأميركية في مدرسة “التابعين” عند التكبيرة الأولى “الله أكبر”، كأن الاحتلال ينازع الله كبرياءه، ولا يريد سوى مناداته أو مناداة حاميه الأميركيّ.

مذبحة الفجر

من يشكّ لثانية واحدة في كذب أن دولة إسرائيل تريد وقف الحرب، فعليه فحص مستوى فهمه للأحداث، ومن يصدّق مزاعم نتنياهو في وقف الحرب عبر المفاوضات، فهو لا يستوعب الأمور على حقيقتها. وبعيدًا عن الاستشهاد بمذبحة الفجر، فإن اغتيال إسماعيل هنية، رجل الدولة والسياسة والصلح، هو إرادة اغتيال للجهود الباحثة عن وضع حدّ للجرائم المتتالية.. لم يكن استشهاد “هنية” مجرد تصفية لقائد حماس، وإنما تصفية للجهود؛ خوفًا من أن تؤدي إلى نتيجة إيجابية من التي يجهد نتنياهو ورفاقه لغلق كل نافذة تؤدي إليها.

عندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن في 31 مايو/ أيار 2024 ما قيل إنها مبادئ لوقف الحرب، وعلى إثرها جاء قرار مجلس الأمن الدولي رقم 2735، لم تتردد قيادة حماس في قبولهما، والعمل مع الوسطاء لتجسيدهما على أرض الواقع في غزة، لكن ممثل الولايات المتحدة في مجلس الأمن خرج على الإعلام بادعاء أن الكُرة الآن في ملعب حماس، وأن على حماس أن تقبل بهذا القرار، لأن إسرائيل قبلته، في حين أن حماس سارعت وأعلنت أمام العالم قبولها، وسكت نتنياهو فترة، ثم أعلن أمام العالم أنه لن يوقف الحرب إلا بالانتصار الكامل وسحق حماس.

بيدَ أن المسؤولين الأميركيين كانوا يصرّون على أن إسرائيل قبلت، وأن تصريحات الرفض هي فقط من أجل الضغط وليست رفضًا لقرار مجلس الأمن أو مبادئ بايدن.. مرت أشهر وأثبت نتنياهو كذب الأميركيين في تحميله قبول وقف الحرب، أعلن داخل مبنى الكونغرس عن رفضه، والإصرار على أنه لن يوقف الحرب، وحاز تأييدًا أميركيًا على مواقفه تلك، وأدخلت دولة الاحتلال قرار مجلس الأمن في مسار طويل، يضيق بمرور الوقت عبر وضع الشروط التعجيزية.

إنهم يكذبون.. ويتقبلون الإهانات التي يوجهها لهم نتنياهو دون احترام! رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة، والشخصية الديمقراطية المشهورة نانسي بيلوسي، قالت لو كان نتنياهو جادًا لكان عليه أن يخصص القليل من الوقت لوقف الحرب وإعادة الرهائن، كلامُها الاستنكاري لتصفيقات الكونغرس له دليل إثبات على أنه لم يقبل بقرار مجلس الأمن ولا بمبادئ بايدن، كما كان أنتوني بلينكن يدّعي.

في الوقت الذي يطلب البيت الأبيض فيه وقف الحرب، ويشدّد على رفضه اغتيال هنية، يكافئ القاتل بالإفراج عن 3,5 مليارات دولار للإنفاق على شراء الأسلحة الأميركية.. مال وسلاح! لم يمرّ على إذاعة الخبر سوى ساعات حتى كانت مذبحة الفجر، مذبحة التكبيرة الأولى، فهل هم صادقون في مزاعم وقف الحرب؟

في داخل الولايات المتحدة الأميركية مؤسستان تتعامل معهما دولة الاحتلال، الكونغرس والبيت الأبيض.. ثبت خلال الفترة الماضية أن نتنياهو لا يأبه برضا البيت الأبيض، فالرئيس الأميركي عاجز عن الضغط عليه، هو مجبر على تلبية كل طلبات السلاح لاستمرار الحرب، ما يهم نتنياهو هنا هو الكونغرس، والكونغرس يُصفِّق خلفه وهو يمشي في طريق ارتكاب المجازر “تنفيذًا لأمر الله بدعم إسرائيل”، كما يردد دومًا رئيس مجلس النواب الأميركي!

هدية نتنياهو لمجلس المفاوضات المنتظر في 15 أغسطس/ آب 2024 أرفقها مع الوفد المكلف لإثبات النيات، وهي ثلاث رسائل داخل ثلاثة صواريخ غلفتها مذبحة الفجر، كلٌّ يقدم بين يديه ما يثبت نيّاته، فالرجل صريح وواضح؛ لا لوقف الحرب، ومدرسة “التابعين” هي الدليل.. تفضلوا باستلامها، ولتبدأ المحادثات: محادثات وقف الحرب.

نتنياهو لا يأبه للإدارة الأميركية، وأيضًا لا يأبه للأوروبيين، الرئيس الأميركي لو كان يريد وقف الحرب والدخول في عملية سلام، تثبت فيها الحقوق، لاستخدم صلاحياته التنفيذية لإجبار رئيس حكومة دولة الاحتلال على وقف الحرب، لكنه بدلًا من ذلك يرسل إليه الأموال والسلاح، والمال والسلاح ليسا إلا لتلبية الحاجيات؛ والحاجيات الراهنة هي الحرب ومتطلباتها.

كيف يمكن الجمع بين الوساطة لوقف الحرب، وتغذية استمرارها، وتغطية الجرائم التي ترتكب، وتوفير الحماية لمرتكبها؟ من القادر على استخلاص المصداقية في مواقف متناقضة كهذه؟!.

إنّ الغاية الأميركية الإسرائيلية واحدة، فكلتا الدولتين تريدان شيئًا واحدًا، لكن الأميركيين أكثر مكرًا، كلتاهما تريدان إنهاء حركة حماس بما يسمى باليوم التالي لهذه الحرب، وتريدان توريط الدول العربية في وحل غزة، لكن الدول المعنية رفضت الانجرار وراء هذا المخطط، هي لا تريد كنس مخلفات بايدن كما قال أيمن الصفدي، وزير خارجية الأردن.

إنهم يكذبون.. لكن الوضع الآن مختلف، فبعد ذهاب رجل الصلح والسياسة، انتقل التفاهم إلى الميدان، ومن غير المستبعد أن تكون مجزرة الفجر من أجل إثارة غضب السنوار لوضع العائق أمام مسار المفاوضات بعد البيان الثلاثي، والبيان الثلاثي لن يكون مصيره إلا كمصير قرار مجلس الأمن ما لم تغير واشنطن موقفها تجاه تل أبيب.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *