يبدأ شهر رمضان الكريم، فتتغيّر ساعات الدوام في الجامعات والوظائف والمؤسّسات مراعاةً للصائمين. أنتَ صائم والمُعظَم من حولك كما هو المفترض صائمون، ولعلّك سمعت كثيرًا عن أهمّية الصيام لتهذيب النفس وبناء الأخلاق الحسنة وتحسين السلوك، لكنّك حين تقود سيارتك في نهار رمضان، تجدّ النّاس متوتّرة وسريعة الانفعال، يصعب أن تتحدّث مع الآخرين، كما يصعب أن يسمحوا لك بالمرور من أمامهم أثناء القيادة، فالجميع صائمون، وهُم ليسوا بمِزاج جيّد قبل الإفطار، ويجب أن تَعي أنتَ كذلك، وعلى الجميع أن يُراعي الجميع إذ لا أحد يشعر بأنّه على ما يُرام، والجميع يشعر باستحقاق وبضرورة معاملته معاملة خاصّة؛ لأنّه صائم.
شهر رمضان الكريم
تشعر بالتناقض، فالفجوة بين الواقع وبين النصوص الدّينية مُتّسعة، وسلوكيات النّاس في نهار رمضان أقرب لأن تنقسم إلى اتّجاهين رئيسيين: حالة من التأهّب والحساسية العامّة وعدم الصبر أو حالة من الكسل والخمول المُفرِط والتململ الدائم والشكوى المتكرّرة، فإمّا أن تحتدم المشكلات وإمّا أن يتمّ تأجيل المهام الجدّية والتقصير في أدائها، وكلّ هذا يتم تعليقه على ظرف الصيام، هذه الشعيرة المباركة والطيّبة.
لماذا يحصل هذا التناقض في سلوكيات الصائمين؟ وكيف يُهذّب الإيمان والأخلاقيات التي يُوصي بها من سلوك الناس خلال الصيام؟ وكيف يُمكِن للصيام أن يرفع من قدرة الإنسان على ضبط نفسه والسمو به وتحسين سلوكه؟ هذا ما سيستعرضه المقال عبر تناول دراسات حديثة من حقل علم النفس الدّيني والأخلاقي والتي تتبّع أثر الصيام على السلوك، وعلى تنمية عضلات الأخلاق الإيمانية للصائمين.
لفترة طويلة ظلّ نقاش السلوكيات الأخلاقية مقتصرًا على علوم الدّين والفلسفة، وكانت نقاشات التصرّفات الأخلاقية للبشر تغرق في فضاء نظري مع بعض الشواهد الواقعية هنا وهناك. لكنّ القرن الأخير شهد ثورة علمية في حقول معرفية جديدة متعدّدة التخصّصات، مثل: علم النفس المعرفي وعلم النفس السلوكي وعلم النفس الديني وكذلك علم النفس الأخلاقي والعصبي، والتي صارت تدرس السلوك الأخلاقي بطرق تجريبية وعلمية ترصد وتتبّع التصرّفات البشرية الأخلاقية وتفسّر أسبابها ودوافعها وجذورها.