لم تغِب فكرة إنشاء جيش أوروبي أو خطة بليفين منذ اقتراحها لأول مرة في خمسينيات القرن الماضي من قبل رئيس الوزراء الفرنسي آنذاك رينيه بليفين، لكن هذا المشروع لم يكتمل بسبب رفض الجمعية الوطنية الفرنسية التصديق عليه.
خطة بليفين
وبعد أكثر من نصف قرن، سقطت الدول الأوروبية في حالة من الرضا عن النفس والكسل العسكري بعد الحرب الباردة، معتبرة أنه إذا تعرضت لأي هجوم ستهرع الولايات المتحدة لمساعدتها.
لكن تهديد الرئيس الأميركي السابق والمرشح الأوفر حظا بالفوز، دونالد ترامب، بعدم الدفاع عن دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) خلال رئاسته إذا تقاعست الدول الأعضاء عن الوفاء بالتزاماتها المالية، أرغم الأوروبيين على البحث عن أجوبة لتساؤلات عديدة، من أهمها هل الجيوش الأوروبية مستعدة وقادرة على الدفاع عن نفسها وبمفردها؟
وبعد سنوات من التراخي في الإنفاق الدفاعي، أتى نداء استيقاظ مفاجئ من روسيا في حرب لا تزال تدور رحاها حتى اليوم في أوكرانيا، ومهدت الطريق أمام واقع جديد تواجهه القارة الأوروبية، أوروبا لم تعد آمنة.
وتقول مسؤولة أبحاث السياسة الخارجية والأمن والدفاع في مركز “ويلفريد مارتنز” للدراسات الأوروبية، إيونيلا ماريا سيولان، إنه على مدى العقود الثلاثة الماضية سادت عقلية “جزيرة السلام” في أوروبا حيث لا توجد تهديدات تقليدية خطيرة لأمنها.
وأضافت في حديثها للجزيرة نت أن الحرب الأوكرانية أثبتت أهمية الصناعة الدفاعية والإنتاج السريع للأسلحة المطلوبة بشدة في ساحة المعركة مثل الذخيرة، “إلا أن الصناعة الأوروبية في هذا المجال متخلفة عن الركب. وبالإضافة إلى بطء وتيرة المشتريات الدفاعية، لا تزال هناك فجوات في القدرات الإستراتيجية (النقل الجوي، وتبادل المعلومات الاستخباراتية، والاتصالات والتنسيق)”.
ومن الناحية النظرية، تبدو فكرة توحيد القوى جذابة، إذ سيسهم وجود مؤسسة عسكرية مشتركة في خلق اقتصادات ضخمة ويزيل أوجه القصور البيروقراطية، فضلا عن فرض نوع من المصداقية في الردع والفعالية في ساحة المعركة.
لكن مدير مركز دراسات السياسة الأوروبية “سي إي بي إس” (CEPS) دانييل غروس يقرأ المشهد بشكل مغاير، إذ يعتبر أن حلف شمال الأطلسي كان لا يتعدى كونه “منظمة بالية” وعفا عليها الزمن، لأن الاختلافات بين أعضائه اقتصرت على الإجراءات والسياسات المشتركة قبل أن تأتي الحرب الأوكرانية، وتنفض الغبار عنه أخيرا ليقوم بدوره الدفاعي الأساسي.
وحول الخلافات بين بعض الدول الأوروبية، أكد غروس للجزيرة نت أن هذا الأمر لم يضعف اتحادها حتى الآن، ولم يبعدها عن الخطة والمسار المشترك لتقديم الدعم لكييف، لافتا إلى أن “التهديد الروسي مشكلة عسكرية، ولن يتم التغلب عليها سياسيا”.
وفي الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن الإنفاق العسكري لدول الناتو، أوضحت المسؤولة في المركز البلجيكي أن الناتج المحلي الإجمالي للدول الأوروبية في الحلف يكاد يعادل مجتمعا الولايات المتحدة، وأنه للدفاع عن القارة الأوروبية في هذا العالم غير الآمن، سيتعين على القيادة السياسية استثمار أكثر من 2% للدفاع.
وشددت سيولان على أن وصف الجيوش الأوروبية بأنها “بدون قيمة” في غياب الناتو يبالغ في تبسيط المشهد المعقد للأمن الأوروبي، لأن الحلف يشكل عنصرا حيويا في البنية الأمنية الأوروبية، ولا شك في أن غيابه سيخلف تأثيرا كبيرا على الدفاع والأمن الأوروبيين”، مشيرة إلى أن تعزيز الردع الأوروبي سيعزز بدوره الركيزة الأوروبية للحلف ضد أي هجوم روسي محتمل، خاصة وأن 23 عضوا (من أصل 32) من الاتحاد الأوروبي.
ووفقا لمؤشر “باور إندكس”، تمتلك روسيا أقوى الجيوش في أوروبا في تصنيف عام 2023، تليها المملكة المتحدة كثاني أقوى جيش أوروبي، ثم فرنسا وإيطاليا.
من جانبه، يرى مدير مركز دراسات السياسة الأوروبية أن الاعتماد على الولايات المتحدة في مسائل الدفاع يمثل الحمض النووي لأوروبا “لأن هذه القارة لم تولد للدفاع عن نفسها، بل لمنع الحرب بين دولها وحل النزاعات بين حكوماتها”.
وتابع “يمكن للدول الأوروبية ضمان أمنها في حالة واحدة فقط، وهي عندما تصبح وحيدة وبدون مساعدة طوال 4 سنوات من رئاسة ترامب لأن ذلك سيمنحها الوقت الكافي لبناء دفاع أوروبي موثوق”.
وبعد أن كان الاهتمام العالمي منصبا على تفاصيل عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس ضد إسرائيل وتبعاتها، عادت الحرب الأوكرانية مرة أخرى إلى الواجهة.
ويقرأ غروس، الذي شغل منصب المستشار الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، هذا التحول بفهم القادة الأوروبيين أن فوز كييف سيحدد مستقبل القارة بأكملها لأن “أمن أوروبا مرهون بأمن أوكرانيا”. كما وصف ما يحدث في الشرق الأوسط بـ”الدراما الإنسانية والسياسية” التي لم تلعب فيها أوروبا إلا دورا ثانويا وبتأثير ضئيل جدا، في إشارة واضحة إلى مدى أهمية أوكرانيا بالنسبة لها، على حد قوله.
وفي هذا السياق، تقول المسؤولة في مركز “ويلفريد مارتنز” للدراسات الأوروبية “يجب اليوم تجهيز أنفسنا لعصر تسوده المنافسة الجيوسياسية الشرسة”، مؤكدة أن روسيا “تشكل التهديد الرئيسي لأمن القارة الأوروبية (ليس فقط على جناحها الشرقي في أوكرانيا، بل في جوارها الجنوبي، وفي منطقة القطب الشمالي أيضا)، فضلا عن إمكانية تشكيل التعاون الروسي الصيني المتنامي المخاطر على أسلوب الحياة الأوروبي”.
ويبدو جليا أن الانتخابات الأميركية المقبلة تشغل الرأي العام الغربي بشكل متزايد، لأنها ستكون حاسمة في الحفاظ على تمسك الغرب ووحدته في دعم أوكرانيا وسيجعل فعالية الجيوش الأوروبية أمام امتحان صعب.
ولهذا تعتبر سيولان أن “العقلية الأوروبية التقليدية التي تزعم أن الولايات المتحدة توفر المظلة الأمنية للقارة لم تعد تشكل أي ضمانة، وحتى في أفضل السيناريوهات، فلا يمكن لواشنطن أن تكون حامية العالم بأسره نظرا للمشهد الجيوسياسي: الحرب في الشرق الأوسط، وتصاعد التوترات بين البيت الأبيض وطهران، والضغوط المتزايدة على ضفتي الأطلسي بين الصين وتايوان”.
وبالتالي، أصبحت مساهمة الأوروبيين بالمزيد من الموارد لتعزيز جيوشهم وقدراتهم الأمنية والدفاعية أمرا بالغ الأهمية، فضلا عن التفكير بجدية في تطوير سياسة دفاعية قوية للاتحاد الأوروبي قادرة على تعزيز الركيزة الأوروبية التي يقوم عليها حلف شمال الأطلسي، وفق المتحدثة.
أما بالنسبة للمراقب الألماني غروس، فيجد أن بناء الدول الأوروبية لدفاعاتها الخاصة بعيدا عن أميركا لن يتم إلا إذا تولى ترامب الرئاسة مجددا وأجبرهم على ذلك، مضيفا “أنا مقتنع تماما بأنه إذا تعرضت ألمانيا للهجوم، فلن تحرك الولايات المتحدة ساكنا في عهده”.