من كينيدي إلى ترامب .. كان يوم 22 نوفمبر/تشرين الثاني 1963 فاصلا في تاريخ الولايات المتحدة، عندما تم اغتيال الرئيس جون كينيدي في بث مباشر وعلى مرأى من الجميع، ربما سيسجل يوم 13 يوليو/تموز وشما آخر في ذاكرة التاريخ الأميركي، لو لم ينج المرشح الرئاسي والرئيس السابق دونالد ترامب من رصاصات الشاب توماس كروكس.
من كينيدي إلى ترامب
لا يتعلق الأمر فقط بحادثة اغتيال أو محاولته، مع اختلاف الظروف. يشير محللون إلى أن المشهد السياسي الأميركي في الحالتين كانت تعتريه الكثير من عوامل الاضطراب والخلاف التي عجزت الديمقراطية الأميركية ومؤسساتها عن حلها، وقد تجلت بشكل أعمق في السنوات الأخيرة.
في حالة اغتيال كينيدي، ما زالت هنالك الكثير من الشكوك حول الحادثة، التي أغلق ملفها رسميا. كان الشاب “لي هارفي أوزوالد” (24 عاما) -الذي قُتل لاحقا من طرف صاحب ملهى ليلي داخل مركز الشرطة في ظروف غامضة- هو مَن ضغط على الزناد، لكن الحيثيات والدوافع بقيت مثار جدل ومجالا خصبا لنظرية المؤامرة.
في محاولة اغتيال المرشح الرئاسي دونالد ترامب، كان الشاب توماس ماثيو كروكس (20 عاما) بدوره هو مَن أطلق الرصاصات التي نجا منها الرئيس السابق بأعجوبة، وفيما لم تتضح بعد ملابسات العملية، تبدو هناك دوافع وأسباب كثيرة متشابهة في جزء منها، لكنها مثقلة بالأبعاد الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
ففي حالة اغتيال جون كينيدي، كان الرئيس الأميركي الشاب (46 عاما) تجسيدا قويا لإعادة بعث الحلم الأميركي ولحيوية المجتمع ومؤسساته آنذاك، وكذلك لمشاريع وبرامج طموحة وجريئة ربما لم ترق للدولة العميقة، وفي حالة دونالد ترامب (78 عاما) يعد الرجل مثار جدل وخلاف داخل المجتمع الأميركي وناخبيه ونخبه.
يرى العديد من المحللين أن حالة الاستقطاب والانقسامات السياسية تتعمق بشكل غير مسبوق في الولايات المتحدة، ويتجلى ذلك في المنافسة الشرسة بين المرشحين جو بايدن ودونالد ترامب في حملة الانتخابات، والتي جاءت بأدوات وأشكال اعتراها الكثير من القدح والذم والشتم، دون التركيز على البرامج.
وعززت ظروف هذه الحملة وما قبلها مخاوف الأميركيين من اتساع مساحات العنف ونشوء اضطرابات محتملة، بات المجتمع الأميركي مهيئا لها، وربما تعد رصاصات توماس كروكس أحد تجلياتها.
لم تكشف دوافع الشاب توماس كروكس في محاولة اغتيال دونالد ترامب، ورجحت التقارير أن يكون “ذئبا منفردا”، لكن الرصاصات التي أطلقها تجاه المرشح الرئاسي رغم طابعها الإجرامي، تعبر عن حالة اللايقين في نفوس الأميركيين خصوصا الشباب، وعن شروخ باتت تتسع في المجتمع الأميركي، وأزمات اجتماعية واقتصادية وثقافية ودينية بدأت تؤثر في الجسد الأميركي وفق الكاتب جورج فريدمان.
ويرى فريدمان -الباحث في الشؤون الإستراتيجية ومدير موقع “جيوبوليتيك فيوتشرز”- أن مشاكل أخلاقية ودينية وثقافية تمزق الولايات المتحدة، مشيرا إلى أن الأزمة التي تواجهها واشنطن تتفاقم مع مرور الوقت وتحولت إلى أزمة اقتصادية وسياسية وفق تعبيره.
ويضيف فريدمان، الرئيس السابق لمعهد ستراتفورد، “رغم أن كل رئيس جديد يحاول ملء نفوس الناس بالأمل، فإن الشيء الوحيد الذي يمكن قوله في الوقت الحالي هو أن الولايات المتحدة الأميركية تسير نحو الفشل”.
يشير مراقبون ومحللون إلى أن وجود مرشحين للرئاسة تجاوز أحدهما سن الثمانين ويقترب الآخر منها، يعبر بالضرورة عن فقدان الحلم الأميركي لحيويته ومرونته وجاذبيته، وعن حالة التكلس والجمود التي يعيشها المشهد السياسي الأميركي بحزبيه الرئيسيين الجمهوري والديمقراطي ومؤسساته.
ويراقب الأميركيون كيف يعاني المرشحان من مشاكل صحية ونفسية كبيرة، فالرئيس بايدن (81 عاما) تثار شكوك كثيرة حول قدراته الصحية والعقلية تستند إلى زلاته وأخطائه الكثيرة والمتكررة وحالات النعاس التي تعتريه، ويتوقع الكثير من الأميركيين ألا يكمل مدته الرئاسية وسط دعوات متزايدة له بالانسحاب من السباق الرئاسي.
وفي حالة المرشح الديمقراطي دونالد ترامب (78 عاما) فهو أيضا يشارف على الثمانين، ويوصم بأنه “فوضوي وشعبوي”، كما أنه ملاحق قضائيا، ومثل أمام المحاكم مرات أثناء حملته الانتخابية التي يستفيد فيها من عدم توازن منافسه، كما أن شكوكا مماثلة تثار حول قدرته على إدارة الدولة أيضا.
ويخشى الأميركيون من أن وضع المرشحين للرئاسة الصحي والقانوني والنفسي والصراع بين الحزبين “الديمقراطي” و”الجمهوري”، قد يؤديان إلى تآكل البنية الديمقراطية الأميركية، كما يخشون أن تؤدي الخلافات إلى تأثيرات سلبية على مصداقية الولايات المتحدة في الساحة الدولية بدأت تظهر بوادرها في ملفات عديدة.
ويشاهد الأميركيون كيف تحولت المنافسة الديمقراطية بين الحزبين الكبيرين، المحتكرين عمليا للسلطة السياسية إلى عداء صريح، وكيف تراجع الخطاب النقدي والهادئ، ليفسح المجال لحملات سياسية وإعلامية مشحونة بالاتهامات الخطيرة، والتشكيك في الولاءات.
وفي هذا السياق، تشير مجلة “فورين أفيرز” إلى أن الدولة الأميركية فى حالة تراجع مستمرة، وهذا التراجع والانقسام السياسي والمجتمعي يمكن أن تفاقم حالة الارتباك والفوضى الداخلية، وتعرقل عمل المؤسسات التنفيذية والتشريعية والرقابية، وهو ما يغذي مساحة اللايقين ويرفع منسوب العنف.
وفقا للمحللين، كانت هناك بوادر تآكل في التجربة الديمقراطية الأميركية العريقة وقدرتها على استيعاب وحل الخلافات بالتفاعل بين المؤسسات العديدة، منذ رفض الرئيس دونالد ترامب نتائج انتخابات 2020 -التي خسرها أمام جو بايدن- وما تبعها من أحداث اقتحام مبنى الكابيتول (الكونغرس) في 6 يناير/كانون الثاني 2021، والتي شوهت تماما صورة الديمقراطية الأميركية.
وقد ارتفع منسوب العنف وتواترت الحوادث العنصرية، لعل أبرزها مقتل المواطن الأميركي جورج فلويد يوم 25 مايو/أيار 2020 من قبل شرطة مدينة مينيابوليس وما تلاه من مظاهرات عارمة، تجسدت أيضا في المظاهرات التي عمت الجامعات الأميركية رفضا للحرب الإسرائيلية على غزة بدعم أميركي.
باتت هناك حالة عدم يقين في مستقبل الحلم الأميركي على ضوء الزيادة في الأسعار وتكاليف المعيشة وأزمة الديون والخلافات السياسية حول حل ملفات اجتماعية واقتصادية ملحة والدعاوى الانفصالية خصوصا في ولايتي تكساس ونيو هامبشاير لم تشهدها الولايات المتحدة من قبل.
ويشير محللون إلى أن الخلافات السياسية الحادة والفشل في حل المشاكل والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية قد عمّقت الشروخ العمودية في المجتمع الأميركي على المستوى الإثني والثقافي، وتهدد حالة الاستقطاب الراهنة بخروجها عن السيطرة ويغدو احتمال حدوث صراعات مدنية محتملا بشكل متزايد، بما يكسر التماسك الاجتماعي ويهدد الديمقراطية الأميركية ونفوذ الولايات المتحدة الخارجي.
كانت رصاصات الشاب توماس ماثيو كروكس الموجهة إلى المرشح دونالد ترامب تحمل أبعادا تبدأ بنوازع نفسية شخصية، وتنتهي بعوامل إحباط عديدة من الوضع السياسي والاقتصادي وحالة من الخوف واللايقين وزيادة في جرعات العنف تشير إلى أن الحلم الأميركي في طور التآكل من الداخل.