على امتداد العالم الإسلامي في أقطار الكرة الأرضية الأربعة، لا تجد أحدا من بين الملياري مسلم لم يفرح بما أنجزته كتائب عز الدين القسام في طوفانها يوم السبت، إلا إذا كان منافقا أو مفارقا. وهذا الفرح ليس حقدا على عموم اليهود وتشفيّا منهم، فقد عاشوا بين ظهراني المسلمين قرونا طويلة بكامل حقوقهم في ديار الإسلام على امتداد تاريخه، ولكنه فرح الرغبة الدفينة في الانتقام من اليهود الصهاينة الذين يحتلون فلسطين ومقدساتها ويذيقون أهلها الويلات لأكثر من 80 عاما لذلك انتشر هاشتاغ أكمل طوفانك
أكمل طوفانك
وكما نقشت عملية “سيف القدس” اسمها قبل عامين بوصفها أول عملية من نوعها في تاريخ المقاومة الفلسطينية، فقد نُقشت معركة “طوفان الأقصى” بوصفها أول اجتياح كامل الأركان للمواقع العسكرية والمستوطنات التي أقامها الكيان الصهيوني على الأرض الفلسطينية منذ احتلال فلسطين عام 1948. فهل على حركة حماس وفصائل المقاومة الفلسطينية ألا تنهي هذا “الطوفان” بمثل ما انتهت إليه عمليات المقاومة السابقة، وألا تقبل بتعهدات دولية وإقليمية محدودة خاصة بالمسجد الأقصى والإفراج عن الأسرى والمعتقلين، بل ترفع سقفها السياسي، بما يعيد القضية الفلسطينية إلى مسارها، بمشروع وطني واحد، يجبر الكيان الصهيوني على تغيير معادلاته وإستراتيجياته الخاصة بالقضاء على المقاومة والالتفاف على القضية الفلسطينية وتجاوز شعبها وحقوقه التاريخية التي يتوارثها جيلا بعد جيل؟
ما زاد الفرح في صدور أبناء الأمة الإسلامية الواحدة أن هذا الطوفان جاء في وقت اتسع فيه نطاق الهيمنة الصهيونية في المنطقة العربية، وتزايد تدافع عديد من الدول العربية باتجاه التطبيع مع الكيان الصهيوني، خضوعا للضغوط الأميركية المتوحّشة، ورغبة في توفيق مصالحها الوطنية معها، أو ظنا منها أن الأمور استتبت للكيان الصهيوني بصورة مطلقة سيتم فيها عزل قطاع غزة بالكامل وربما القضاء على المقاومة.
لقد بعث هذا الاجتياح “الطوفاني” الأمل في صدور الفلسطينيين في الداخل والخارج، وفي صدور الشعوب العربية والإسلامية بصورة لم يسبق لها مثيل.
ففلسطين رمز الوحدة العربية والإسلامية، وبوصلة استقرارها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتنموي، وفلسطين قلب الأمة العربية والإسلامية النابض بالقوة والفداء والتضحية والإصرار على الحياة العزيزة الكريمة مهما بلغت المعاناة، ومهما ارتفعت فاتورة التضحيات، وفلسطين بؤرة الصراع ضد الإهاب الحقيقي الصهيوني الذي يفتك بالأمة العربية والإسلامية، وينخر في أساساتها، ويفرّق جمعها، ويمزّق شملها، لتسهل له السيطرة عليها وتتسنى له الهيمنة الكاملة على خيراتها ومقدراتها، ويضمن استمرار موتها السريري، والحيلولة دون استيقاظها.
لقد حفلت السنوات العشر الماضية بكثير من الأحداث المؤلمة التي نخرت في جسد الأمة العربية والإسلامية، وألقت اليأس القاتل في صدور أبنائها، وأمعنت في بث الفرقة والتّناحر فيما بينهم، وغيّرت المفاهيم والمبادئ والأسس التي يقوم عليها بنيان الأمة، ودمّرت مؤسساتها، ومسخت هيبتها وكرامتها، وصرفتها عن العدو الحقيقي إلى عدوّ وهمي تفرّغ فيه طاقتها وتجمع حماسة أبنائها لمواجهته. هذه الأحداث المتسارعة التي أصابت الأمة كانت أحداثا ممزوجة بالغضب والانفعال والحقد والقتل والدم والانهيار والتشتيت والهزيمة النفسية الضاربة، التي دفعت كثيرين إلى التيه والضياع والانتحار والإلحاد.
نعم، لقد أحيا “طوفان الأقصى” الأمة العربية والإسلامية من جديد، وقدّم لها الغذاء الذي ستقتات عليه أجيالها لعدة عقود قادمة، بعد أن حطّم أساطير المستحيلات الوهمية للعدو المتفوّق الذي لا يقهر.
كما أرسل للأنظمة العربية والإسلامية رياحا شديدة لتنفض عن أوراقها السياسية غبار الوهن والاستسلام والعجز والهزيمة، وتقدّم لها مرتكزات قوية جديدة، ودوافع مفحمة تستند عليها في خطابها السياسي القادم الخاص بالقضية الفلسطينية، ربما يبعث الأمل في استعادة القضية الفلسطينية لزخمها، ويساعد على تعديل مسارها ووضع أجندة واضحة لتحقيق مطالب الشعب الفلسطيني وتمكينه من استعادة حقوقه المسلوبة ضمن إطار زمني محدد.
إن هذا الأمل الذي انطلق شامخا، سيظل متدفقا في الصدور لسنوات قادمة ليست بالقليلة، مهما كانت النتائج ردود الفعل الانتقامية المتوقعة من الكيان الصهيوني على هذا الاجتياح، فالدم الفلسطيني يتدفق في شوارع الضفة الغربية وقطاع غزة على مدى الأيام، والمعاناة الفلسطينية بكل ألوانها القاتمة والدامية تعشش في كل بيت وفي كل زاوية، على مدى العقود السابقة، دون أن يشهد انتصارا على هذا المستوى. فمهما كان حجم الدمار القادم في البنية الفلسطينية، ومهما كان عدد الشهداء والجرحى بسبب العدوان الانتقامي، فإن الشعب الفلسطيني لن يلقي لها بالا أمام شمس هذا الانتصار وضخامة النتائج والمكاسب المترتبة عليه.
لأول مرة في تاريخ الكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين، يذوق الشعب اليهودي معنى الحرب، ومعنى الدمار والقتل والمعاناة، وأعتقد أنه آن الأوان للولايات المتحدة والدول الغربية أن تراجع موقفها تجاه القضية الفلسطينية التي أوجدتها بنفسها، وأن تكفّ عن النظر إليها بعين واحدة لا ترى سوى الكيان الصهيوني والشعب الصهيوني، وأن تدفع بجدية باتجاه تسريع حل القضية الفلسطينية بما يحقق الأمن والسلام والاستقرار للشعبين اليهودي والفلسطيني، وليس الشعب اليهودي فقط. فمن بين الدلالات العديدة التي أكدها “طوفان الأقصى” أن قدرة المقاومة الفلسطينية على الصمود والتصدي في تزايد مستمر، وأن عزيمتها على الاستمرار تزداد صلابة ولا تلين، وأن الأجيال الفلسطينية، التي يحاولون تمييعها ومسخ شخصيتها وتدمير انتمائها، ماضية في طريق المقاومة ومصممة على استعادة حقوقها مهما بلغت التضحيات.
إن استمرار الولايات المتحدة والدول الغربية في سياساتها السابقة القائمة على الكيل بمكيالين، مكيال يعزز القوّة الصهيونية، ويتعهد بضمان حمايتها واستقرارها وتفوقّها، ومكيال يقدم الدعم الإغاثي للشعب الفلسطيني المنكوب، ضاربا بحقوقه ومطالبه عرض الحائط، واستمرار الرئيس الأميركي بترديد قوله إنه “لو لم تكن هناك إسرائيل لأنشأنا إسرائيل”، لن يزيد الشعب اليهودي إلا ألما ومعاناة، فالسنوات القادمة في تاريخ الشعب اليهودي لن تكون كالسنوات الماضية، والدمار لن يكون من نصيب الشعب الفلسطيني فحسب، بل سيلحق بالشعب اليهودي أولا بأول، والمعاناة والحرقة والألم والفواجع المتلاحقة لن تصب على رؤوس الشعب الفلسطيني وحده، بل سيذوق الشعب اليهودي مرارتها بطعم لم يتذوقه من قبل.
آن الأوان للولايات المتحدة والدول الغربية أن يقتنعوا بشكل كامل أن استقرار الشرق الأوسط لن يتحقق دون استعادة الشعب الفلسطيني لحقوقه، وأن عمليات التطبيع لن تستمر ولن تكون فاعلة، ما لم ينعم الشعب الفلسطيني بالحرية والكرامة والعزة على أرضه، وأن مشاريعهم الاستثمارية الإستراتيجية الضخمة القادمة في منطقة الشرق الأوسط لن تكتمل ولن تؤتي أكلها ما لم يستعد الشعب الفلسطيني إنسانيته وحياته وتفوقه ورفاهيته التي سلبها الكيان الصهيوني، وما زال يتمتع بها وحده.
وبالتالي، فقد آن الأوان أن تعمل الولايات المتحدة والدول الغربية على تقديم القضية الفلسطينية لتتصدر أجندات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، في القريب العاجل، لتجد الحل الذي يضع حدّا لمعاناة الشعب الفلسطيني، ويعيد له حقوقه، ويمكنه من تحقيق آماله وتطلعاته في الحياة الآمنة المستقرة على أرضه.
كنت أرجو أن يكون هذا “الطوفان” قد حدث والشعب الفلسطيني له قيادة موحّدة، وبرنامج تحرر وطني واحد، وسلطة عزيزة قادرة على توظيف التضحيات لصالح تحقيق مشروعها الوطني الذي توافق عليه الشعب الفلسطيني، وإنني لأرجو أن تكون حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ومعها سائر فصائل المقاومة الفلسطينية قد وضعت في حسبانها ألا ينتهي هذا “الطوفان” بمثل ما انتهت عليه عمليات المقاومة السابقة، وألا تقف عند حدود تعهدات دولية وإقليمية محدودة خاصة بالمسجد الأقصى والإفراج عن الأسرى والمعتقلين، بل أن ترفع سقفها السياسي، بما يعيد القضية الفلسطينية إلى مسارها، وأن تستمر في طوفانها ليكون بداية جديدة للقضية الفلسطينية بمشروع وطني واحد، يجبر الكيان الصهيوني على تغيير معادلاته وإستراتيجياته الداخلية والخارجية الخاصة بالقضاء على المقاومة والالتفاف على القضية الفلسطينية وتجاوز شعبها وحقوقه التاريخية التي يتوارثها جيلا بعد جيل.