في القدس زهرة المدائن، مسلم يفتح أبواب الكنيسة.. هكذا يبدأ الفيلم بإبهارنا ويجعلنا نتوق إلى معرفة المزيد. يرسم فيلم كنيسة القيامة الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية لوحة جميلة للمدينة المقدسة مهد الديانات السماوية ومهوى الأفئدة والقلوب.
كنيسة القيامة
تأخذنا الكاميرا إلى داخل الكنيسة لمشاهدة الحجاج القادمين بالآلاف من جميع أنحاء العالم لنيل البركة، نستمع لصلواتهم وتراتيلهم، وينعش الأسماع مزيج رائع من أجراس الكنائس وأذان المساجد في القدس القديمة التي مُلئت طهرا وبركة.
وجاء بناء الكنيسة مثل بناء مدينة السلام المقدسة؛ كمزيج من منابع وأنهار متعددة ولكنها تصب في بحر واحد، شأنها شأن قطعة التطريز الفلسطينية الرائعة الخلابة.
يرافقنا في رحلتنا في هذا الفيلم المصور الشهير غارو نالبدان الذي يتجول في الكنيسة كأنها بيته، وقائدة جوقة الكنيسة هانية سوداح التي ولدت في المدينة المقدسة وترعرعت بين مساجدها وكنائسها، والخبير في تاريخ القدس المؤرخ ألبرت أجازريان، والدكتور محمد غوشة الذي ألف كتابا عن المدينة.
تمثل الكنيسة منذ قرون مثالا حيًّا للتعايش الإسلامي المسيحي، ومنذ الفتح الصلاحي للمدينة المقدسة أعطى القائد صلاح الدين مفاتيحها لعائلتين مسلمتين، هما عائلة نسيبة التي تقوم بفتح أبواب الكنيسة وإغلاقها صباحا ومساء، وعائلة جودة آل الحسيني التي تحمل المفاتيح وتحافظ عليها.
تقع كنيسة القيامة داخل أسوار البلدة القديمة في القدس، وتسمى أيضا “القبر المقدس”، وهي عبارة عن مجمع معماري كبير، ويحيط بها العديد من المباني التاريخية والأثرية التي تعود إلى فترات زمنية مختلفة، وسميت نسبة إلى “قيامة” المسيح من بين الأموات، بحسب العقيدة المسيحية.
بنيت الكنيسة من قبل الإمبراطورة هيلانة والدة الإمبراطور الروماني قسطنطين عام 335 للميلاد، وجُدد البناء بشكله الحالي في القرن الـ12، وبنيت فوق الجَلجلة، وهي مكان الصخرة التي يعتقد المسيحيون بأن المسيح عليه السلام صُلب عليها.
للكنيسة خصوصيتها البالغة كما يذكر الدكتور غوشة، فالمرافق التي تتألف منها متعددة ومعقدة، والعمل على توثيقها شاق جدا وخاصة أنه لا تتوفر المراجع والدراسات التي تتناول تاريخها، “وكان لزاما عليّ توثيق هذا كله توثيقا فوتوغرافيا لنقل حالة الكنيسة للعالم العربي والغربي ليعيش روح الكنيسة وعراقتها عبر دفتي الكتاب”.
يوثق المصور غارو ما يدور في الكنيسة على مدار الساعة، فقد أعطاه بطريرك اليونان الضوء الأخضر للقيام بذلك، يرى الإيمان في عيون أولئك المصلين يسكن قلوبهم ويتمكن من أفئدتهم، “أشعر بالسعادة مع كل صورة في هذا المكان، وأتمنى أن يسكنني ذلك الإيمان الذي يطهر القلوب”.
يعتبر غارو نفسه أول من دخل إلى كنز الخوارنة (جمع خوري) العظيم، يتابع قائلا: “يتعين عليّ أن أعرف متى أتوقف عن التصوير حتى لا يؤثر عملي على الصلاة وخشوع المصلين، واحترام المكان وخصوصية العبادة”.
الكنيسة خليط من طرز معمارية تعددت فيها الزخارف التي تنتمي لعصور مختلفة، وذلك لأن المكان رمم أكثر من مرة وأضيف إليه تعديلات وأبنية في أوقات متعددة.
وجمعت الكنيسة عددا كبيرا ومميزا من الفنون المعمارية منذ بنائها، ومثلت تزاوجا معماريا فريدا بين مدارس البناء المختلفة في الشرق والغرب، كما شكل تعرض الكنيسة لحوادث الهدم والحرق فرصة في كل مرة لإعادة بنائها وتجديدها وإضافة ما يناسبها من الفنون التي تَميز بها كل عصر من العصور.
وأجريت للكنيسة أهم الترميمات في العهد العثماني عام 1808، إذ تعرضت وقتها لحريق أعيد على أثره بناء القبر المقدس والمنشآت والمذابح التي تقع داخلها.
تأثر البناء الحالي للكنيسة بفن العمارة الإسلامي العربي كما يقول أجازريان، ويظهر ذلك في بناء الأسواق والقباب. كانت الكنيسة مؤلفة من ثلاث كنائس وهي الجلجلة والقبر والمغارة التي وجدت فيها هيلانة الصليب، وجمعتها في كنيسة واحدة، كما تقع كنيسة آدم تحت الجلجلة.
جُلب بعض رخام الكنيسة من إيطاليا، وقام بنّاء فلسطيني واحد –كما يروي أجازريان- ببناء أعمدة الكنيسة جميعا والتي تربو على خمسين عمودا.
تضم الكنيسة عددا من الكنائس والمذابح والأديرة، فعند دخولها من اليمين توجد كنيسة الجلجلة التي تقسم بين طائفة اللاتين والروم الأرثوذكس، وعن اليسار هناك أملاك الأقباط والأرمن، ومن الأمام هناك المذبح المسمى بالمغسل.
كما توجد كنيسة الأرثوذكس العرب التي أُنشئت في الفترة الزمنية التي ترقى على النصف الأول من القرن الـ16 الميلادي استنادا لوجود نقش تأسيسي فوق مدخل الباب من الجهة الداخلية، وهي من أبرز مرافق كنيسة القيامة رغم أنها لا تقع داخل الباب الرئيسي للكنيسة، وتتألف من ثلاث كنائس هي كنيسة مار يعقوب وكنيسة حاملة الطيب وكنيسة الأربعين شهيدا.
يُعبر غارو عن رغبته الملحة في الاستمرار بالتصوير، ويقول إن المكان يبهره في كل مرة؛ في زواره وما يكشف من أسراره، “أريد أن أصوره حجرا حجرا”.
يقول ألبرت أجازريان إن قضية بناء الأضرحة والقبور والأديرة في فلسطين نوع من الإيثنوغرافيا منذ القدم، فهي عمل يقوم على رصد ثقافات الشعوب، ويعبر عن سلوكياتها الاجتماعية، وهناك أكثر من 2500 مقام لأولياء وصالحين.
تعكس هذه المقامات والأديرة الرغبات الإنسانية في الخلود إلى الخلوة والتطهر وخاصة في المجتمع الريفي. والقضية تتخطى التعددية والانقسام باعتبارها قاسما مشتركا بين أتباع الديانات السماوية، ففي جميع تلال فلسطين هناك أديرة يتنافس فيها الرهبان من جميع المناطق التي وصلوا منها على التقشف وتحمل الصعاب.
لكن بعد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، انقطع التفاعل بين مسيحيي العالم العربي ومعالم القدس، وذلك نتيجة لمنع الحجاج الذين كانوا يأتون من الدول العربية والإسلامية، وهو ما أدى إلى “جفاف التفاعل المسيحي الموجود في الوسط الإسلامي والعربي مع المقدسات المسيحية في القدس وفي فلسطين”.
ولدت هانية سوداح مديرة جوقة الرعية في القدس، وهي من أبناء الجيل الخامس لعائلتها في المدينة المقدسة، وتسكن البلدة القديمة ويتوسط موقع بيتها أربع كنائس. تسمع هانية كل يوم ومنذ طفولتها أجراس الكنائس كما تسمع صوت الأذان للمسجد القريب من بيتها، وكذلك المسجد القريب من كنيسة القيامة.
فتحت عينيها على الحياة وهي تسمع خليطا رائعا من الأصوات التي أثرت في نفسها كثيرا، ووجهت حياتها لعالم الموسيقى وهي في سن السادسة عشرة، كانت ترتل في جوقة الرعية التابعة للكنيسة، تقول: “كنا نرتل القداس باللغة العربية، اضطرت مديرة الجوقة لمغادرة البلاد لوقت محدد لكنها لم تعد حينها، وبقيت أنا أدرب الجوقة وأقودها”.
وتتابع: قمنا بإحياء الكثير من الحفلات في مناسبات مختلفة، ومن تلك المناسبات شاركنا في احتفال لوحدة الطوائف المسيحية مع طائفة السريان الأرثوذكس، كانت المناسبة رائعة وجاء يومها المطران ليعلمنا لأن ترتيلهم أصعب وليس مدونا، كانت فرصة للجوقة لتعلم تراث مختلف وتراتيل متنوعة.
يقول ألبرت أجازريان: في العهد القديم كانت هناك محاولات لبناء برج بابل للوصول إلى السماء، وهناك اختلطت اللغات. العبرة من ذلك أن الله لا يريدنا أن نصلي بنفس النغمة، وألا نتحدث بلسان ولغة واحدة، وبالطبع الموسيقى كلها متداخلة.
ويشير إلى أن أول من أدخل الموسيقى للكنيسة كان الراهب مار أفرام السرياني، وهو من رواد وكتّاب وشعراء المسيحية، ويعتبر بعض المؤرخين واللاهوتيين أنه أعظم من كتب القصيدة والترنيمة الدينية في الشرق المسيحي، ولفصاحة لسانه وبلاغة أدبه وطهارة سيرة حياته لقب بـ”قيثارة الروح القدس”.
في المقابل، فإن أبا إسحق الموصلي الذي تُنسب إليه الموسيقى الصوفية العربية في الفترة العباسية، ذهب ودرس الموسيقى بنفس الدير الذي بدأ فيه مار أفرام. هذا التنوع والتسامح هو ما يميز هذه المدينة.
كان للأب أرماندو أبوتشي فضل كبير على الجوقة كما تقول سوداح، لقد كان موسيقارا وملحنا، أحب الألحان الشرقية التي ترتل في الكنيسة وقام بتوزيع الألحان لأربع أصوات في الجوقات، وبدأ بإضافة صوت خامس لجوقة الشباب.
قانون الستاتيكو
هو قانون صادر عن الدولة العثمانية التي كانت تحكم القدس والبلاد العربية بتاريخ 2 أغسطس/آب 1852، ويقوم على تثبيت حقوق كل طائفة وجماعة دينية كانت موجودة في القدس دون السماح بإحداث تغيير فيما كان عليه الوضع منذ ذلك التاريخ.
ويقول محمد غوشة: للكنيسة أهمية كبيرة لدى كل الطوائف المسيحية، وهذه القيمة أعطت أحقية لكل طائفة لتملك جزءا من كنيسة القيامة، وبالتالي تم حفظ حقوق الطوائف والجماعات الدينية من مختلف الأديان.
وقد أصدر السلطان سليمان القانوني قانونا في النصف الأول من القرن السادس عشر أكد بموجبه حق عائلتين من العوائل المقدسية المسلمة هما عائلتا نسيبة وجودة بفتح كنيسة القيامة وحراستها.
يقول أمين مفتاح كنيسة القيامة عبد القادر جودة: إن أجداده تسلموا المفتاح من صلاح الدين الأيوبي عند فتح بيت المقدس، كي يوقف الخلافات التي كانت تحدث بين الطوائف المسيحية، وقد سلمنا تلك المفاتيح على ألا نتدخل بطقوسهم الدينية.
أما وجيه نسيبة الخزرجي الأنصاري أمين مفتاح كنيسة القيامة، فيقول نحن من بَني غانم، وأصل عائلتنا من المدينة المنورة، ونحن من أوائل من دخل الإسلام، وبدأت القصة منذ زمن عمر بن الخطاب ثم صلاح الدين ثم الأتراك.
ويشير ألبرت أجازريان إلى أن هناك بعض التحفظات من قبل المسيحيين على وجود المفتاح بيد عائلتين مسلمتين واحدة تحتفظ به والأخرى تفتح وتغلق الكنيسة، ولكن لا بد من الإشارة إلى أن حامل المفتاح لا يستطيع التصرف به كيف يشاء.
ومما تقدم تظهر بعد مئات السنين روعة “الستاتيكو” في التنظيم المتناسق والمتناغم لكافة الطوائف المسيحية وحفظ حقوقها وأماكنها الدينية في كنيسة القيامة، وحتى اليوم هذا القانون يسير بتناغم رائع بين جدران الكنيسة.
على الرغم من هذا القانون وأهميته فإن حكومة الاحتلال الإسرائيلي انتهكته عشرات المرات عبر تجميد أرصدة كنيسة القيامة في البنوك، واضطهاد المسيحيين بالتعدي على حرمة الكنيسة وقدسيتها بالاقتحام والحرق والتدمير والسرقة، وما إجراءات الاحتلال إلا محاولة لتغيير هذا “الستاتيكو” الذي حافظ على الحقوق الدينية لمئات السنين وما زال معمولا به حتى اليوم.
وهذا يقودنا إلى إلقاء نظرة على انتهاكات الاحتلال التي يمارسها بحق المدينة المقدسة وأهلها، فكنيسة القيامة تعاني ما يعانيه المسجد الأقصى المبارك، وقد تعرضت للسرقة والنهب والتخريب والإغلاق والحصار أسوة بكل المؤسسات الدينية والثقافية في مدينة القدس، كما يقول غوشة.
أما هانية سوداح فتقول: أشعر أن شيئا ما يشدني للبقاء في هذه المدينة، أحاول أن أبعد شبح فكرة أنني لن أستطيع في يوم من الأيام دخول البلدة القديمة، هذا مخيف ومرعب بالنسبة لي، أنا من أهل هذا المكان ولي جذور فيه وعشت فيه طفولتي ومن وقتها وأنا أشعر بمسؤولية وأهمية لحضوري لكوني شاهدة.
تحُول حواجز الاحتلال بين الحجاج المسيحيين ومهوى أفئدتهم في كنائسهم المقدسة في القدس، وبدل أن يفرح الناس في الأعياد والمناسبات، تُعكّر ممارسات الاحتلال هذا الصفو وتحوله لمعاناة.
لا أحد يستطيع أن يضع الفصل الأخير لهذه الرواية، ولا يحق لأحد أن يفرض سيطرته على المدينة المقدسة، هكذا يقول أجازريان مضيفا أن “مشكلة الصهيونية تاريخيا أنها لا تريد أن تفهم هذا، على الرغم من التعددية الموجودة في التركيبة اليهودية”.