يبدأ فيلم “إلى أرض مجهولة” (To a Land Unknown) للمخرج الفلسطيني “مهدي فليفل” باقتباس عن المفكر الفلسطيني “إدوارد سعيد”، يذكر الاقتباس أن قدر الفلسطيني أن يظل مهاجرا دائما.
فلسطين في مهرجان كان
لا يدور الفيلم رغم ذلك فقط عن حالة الهجرة والغربة للفلسطينيين، ولكنه يعمل أيضا كتحديقة طويلة فيما فعله العالم بهم.
يبدأ فيلم “إلى أرض مجهولة” (To a Land Unknown) للمخرج الفلسطيني مهدي فليفل باقتباس عن المفكر الفلسطيني الأمريكي إدوارد سعيد، يقول فيه إن قدر الفلسطيني أن يظل مهاجرا دائما، ومع ذلك فإن الفيلم لا ينحصر في حالة الهجرة والغربة للفلسطينيين، بل يحدّق أيضا تحديقا طويلا فيما فعله العالم بهم.
يؤرخ الفيلم لبداية موجات الواقعية في عصر السينما المتكلمة، من خلال السينما الواقعية الإيطالية، حينما ترك المخرج “فيتوريو دي سيكا” ورفاقه أستديوهات روما المهدمة بعد الحرب العالمية الثانية، واتجهوا إلى الشوارع لتصوير أفلامهم في مواقع حقيقية، مع ممثلين أغلبهم من الهواة، فأراد صناع الواقعية الإيطالية يومئذ صنع أفلام تتحدث عن حياة البسطاء بعد الحرب.
وفي واحد من علامات هذه الفترة أخرج “دي سيكا” فيلم “لصوص الدراجات” (Ladri di biciclette) عام 1948، وتدور قصته حول رجل إيطالي فقير، يتورط في سرقة دراجة من أجل طعامه وطعام ابنه.
وقد وضع المخرج “دي سيكا” المشاهدين في تلك اللحظة أمام سؤال أخلاقي معقد، إلى أي مدى ستتعاطف مع بطل لا يتحلى بصفات البطولة؟ وأين يقع اللوم في حادثة سرقة طرفاها من الضعفاء والمساكين؟
في الفيلم الفلسطيني “إلى أرض مجهولة” (2024)، يعرض لنا المخرج مهدي فليفل حكاية الشابين الفلسطينيين شاتيلا ورضا مع الهجرة والغربة، ومحاولة البقاء على قيد الحياة، والبحث عن حياة أفضل لهم ولعائلتهم في أرض جديدة.
يعيش بطلا الفيلم الفلسطينيان مهاجرين غير شرعيين في العاصمة اليونانية أثينا، من غير عمل ولا أوراق ثبوتية، ويحلمان بالذهاب إلى ألمانيا.
سعيا خلف حلمهما، يلجأ الشابان إلى السرقة والتحايل، وحتى التفريط في أجسادهم، من أجل توفير قوت يومهم، أو توفير الأموال الكافية لتزوير أوراق هوية، وإيجاد طريقة لحياة أفضل في دولة أخرى.
نشعر نحن المشاهدين بالأسى على حال شاتيلا ورضا، لكننا أيضا نشعر بالأسى على ضحاياهم، فمن المذنب إذن؟
كان فيلم المخرج “فيتوريو دي سيكا” في نهاية الأربعينيات دليلا على إجرام من قادوا أوروبا للحرب العالمية الثانية، وهدموا دولها وتركوا أهلها في هذا الحال، حتى اضطروا لسرقة بعضهم، من أجل توفير قوت يومهم وطعام أبنائهم.
وكذلك كان فيلم “مهدي فليفل”، فهو يمثل تحديقة طويلة في وجه الإنسانية من غير خطاب سياسي مباشر، ليخبرها أن المجرم الحقيقي إنما هو من تسبب في تجريد الفلسطينيين من أرضهم وأهلهم وكل سبل الحياة الكريمة.
فقد سرق هذا المجرم -الذي تدعمه قمة هرم النظام الرأسمالي العالمي- حاضر شاتيلا ورضا، وحاضر ملايين الفلسطينيين، ومستقبلهم أيضا.
يبتعد المخرج مهدي فليفل هنا عن حكايات البطولة التي تحضر بكثرة في السينما الفلسطينية، فلا يحاول تخديرنا ولا تجميل الصورة أمام العالم، بل ينقل الحكاية بأسلوب إخراجي قريب من الوثائقي، ولا يتردد في إظهار كل الخطايا والمآسي التي يقع فيها أبطاله، وهم مع كل ما يمرون به وما يخطئون فيه، لا يتوقفون عن مسائلة أنفسهم، والحزن على ما وصلوا إليه.
يعتمد الفيلم على بطولة ثنائية للممثلين الفلسطينيين محمود بكري في دور شاتيلا وأرام صبّاح في دور رضا، وهما وجهان يظهران ظهورهما الأول في مهرجان كان الذي عُرض فيه الفيلم عرضه العالمي الأول، وبالتحديد في فعالية “نصف شهر المخرجين”.
يعتمد محمود بكري على أداء جسدي مميز لحركات شاتيلا وتقنص دواخله، بشكل مستوحى من شخصية أبو إياد في الفيلم الوثائقي “عالم ليس لنا” (A World Not Ours) للمخرج مهدي فليفل.
ثم نجد على الجانب الآخر تجسيدا داخليا هادئا ومؤثرا من الممثل أرام صباح لشخصية رضا، وهي شخصية مركبة ونادرة الحضور في السينما العربية.
المثير للتأمل أن محمود بكري قد صنع ظهوره السينمائي الأول منذ عامين فقط، في فيلم “علم” للمخرج فراس خوري، وأما أرام صباح فهذا عمله الروائي الطويل الأول على الإطلاق.
ثمة قدرة تمثيلية لدى البطلين، وطاقة من الصدق والقدرة على التأثير في المشاهد، من خلال كافة الأدوات التي يملكها الممثل، وأهمها طبقة الصوت ونظرات العين، قدرة لا نراها إلا مع أسماء معدودة في السينما العربية، وهي تعِد بمستقبل كبير لكليهما.
هذا المستقبل يمكن التنبؤ به أيضا للمخرج مهدي فليفل، وقد حصد جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين عام 2016 عن فيلمه القصير “العائد” (A Man Returned)، ثم رشّح لجائزة البافتا عام 2018 عن فيلمه القصير “الغريق”، (A Drowning Man).
أما فيلمه الروائي الطويل الأول هذا، فقد وصل إلى “نصف شهر المخرجين” في كان، وهو يقدم واحدا من أفضل أفلام المهرجان، فماذا سيقدم لنا فليفل في المستقبل؟ سننتظر منه الكثير.
عُرض فيلم “إلى أرض مجهولة” خلال فعاليات مهرجان كان في دورته الـ77، ومع أن قيمته السينمائية واضحة فإن أهميته قد تخطت ذلك، فقد حضر الفيلم سفيرا للقضية الفلسطينية في أهم حدث سينمائي عالمي.
ولم يكتفِ الحضور في العرض الأول للفيلم بالتصفيق كما هو معتاد في كان، بل تحول الأمر لتظاهرة ترتفع فيها أعلام فلسطين، وتتردد هتافات “الحرية لفلسطين” خلالها.
ولم يقتصر الحضور الفلسطيني في المهرجان على فيلم “إلى أرض مجهولة”، بل حضرت 4 مشاريع لأفلام وثائقية فلسطينية ضمن مسابقة القسم الوثائقي في سوق الفيلم بالمهرجان، وهي:
“بيت أبي” (My Father’s House) لمهدي فليفل. “أسطورة محمود” (The Myth of Mahmoud) لميار حمدان. “نادي فلسطين الكوميدي” (Palestine Comedy Club) لعلاء علي عبد الله. “مش ميكينغ أوف” (Unmaking of) لبلال الخطيب.
وفي نهاية المسابقة فاز فيلم “بيت أبي” لمهدي فليفل بجائزة “ما بعد الإنتاج” من هايفنتي.
ومن خلال فعاليات معهد الفيلم الفلسطيني في كان، نال فيلم “أسطورة محمود” جائزة من شركة “بطيخة بيكتشرز” كما حصل على جائزة ما بعد الإنتاج من “فيلم لاب فلسطين”