في يوم الغفران اليهودي -الذي تُشلُّ فيه كافة مناحي الحياة- تخفت أصوات الباعة في أسواق البلدة القديمة بالقدس ومحيطها، ولا تتسلل روائح السوق المعتادة إلى أنوف المارة، ويدفع المقدسيون الثمن، ويتكبدون الخسائر ليتطهر اليهود من ذنوبهم.
يوم الغفران
إلى الأسواق العتيقة انطلقت الجزيرة نت للحديث مع تجارها حول الإغلاق القسري لمحالهم التجارية مع حلول “يوم الغفران” (الكيبور) اليهودي الذي يعد أقدس أيام السنة العبرية، وهو المتمم لـ”أيام التوبة والغفران العشرة” الذي تبدأ رأس السنة العبرية الجديدة به، ويصوم فيه المتدينون لمدة 25 ساعة تكرس لمحاسبة النفس والتكفير والتطهر من الذنوب وإقامة الصلوات والشعائر التلمودية في الكنس.
داخل حانوته الأثري في سوق خان الزيت بدا التاجر حمزة الأفغاني مضطربا؛ بسبب حملة كانت تنفذها طواقم الضريبة الإسرائيلية في الأسواق، والتي يخرج منها التاجر عادة بمزيد من الخسائر المادية.
حمزة كان مشغولا في كتابة الفواتير وإجراء المكالمات لتسهيل تقسيط الديون التي تراكمت على متجره، الذي تزيد الإغلاقات القسرية من خسائره.
المنازل سجون
يقول الأفغاني “تتحول البلدة القديمة في القدس خلال يوم الغفران إلى مدينة أشباح ومنازلنا إلى سجون نقبع فيها قسرا لتوفير الأجواء الهادئة لليهود ليتطهروا من ذنوبهم في ساحة البراق التي يسيرون نحوها بأفواج كبيرة”.
وطوال فترة عمله لمدة 18 عاما في محل الأزياء المستأجر في السوق، لم يكن الوضع سهلا. لكن تصاعدت القيود الاحتلالية في السنوات الأخيرة بهدف إفساد حياة سكان المنطقة وتجارتهم، وتزيد الأعياد اليهودية من تعقيد الوضع الاقتصادي.
ويضيف التاجر الأفغاني “في حال قررنا فتح أبواب محالنا يوم الغفران نتعرض لاعتداءات المستوطنين؛ لأنهم يعتبرون أن سير الحياة الطبيعية في القدس عملا يستفزهم ويعكر صفو أقدس أيامهم… ولا نسلم من الاعتداءات عندما نغلقها أيضا في ظل تنظيم مسيرات نحو ساحة البراق، وتعمد إلحاق أضرار بممتلكاتنا وخطّ شعارات توراتية على مركباتنا” .
أكثر السيناريوهات رعبا لهذا التاجر الذي يسكن في “العتيقة” هو حاجة أحد والديه المسنين للوصول إلى المستشفى في يوم الغفران بسبب انتكاسة صحية، لأن الدخول والخروج من البلدة أمرٌ شبه مستحيل وتحفه الأخطار.
وعلى بعد خطوات كان التاجر المسن خالد السلفيتي يقف في حانوته المختص ببيع التحف السياحية المصنوعة من الصدف.
تعددت ألوان وتصاميم بضائعه التي يبيعها منذ 45 عاما، وشهد خلال هذه العقود على كافة الممارسات الإسرائيلية الرامية لقتل الأسواق ودفع تجارها لإغلاق أبواب محالها.
وعن الإغلاق القسري لباب حانوته في يوم الغفران يقول هذا المسن “لا التاجر ينجح في فتح محله ولا المواطن يمكنه الوصول، لأن كافة مداخل أحياء القدس تُغلق بالمكعبات الإسمنتية، ويُفرض على المقدسيين منع التجول”.
أمين سر الغرفة التجارية الصناعية العربية في القدس حجازي الرشق استهلّ حديثه للجزيرة نت بالقول إن 2018 حانوتا تُغلق أبوابها قسرا في يوم الغفران، 1372 منها في البلدة القديمة و646 في 7 شوارع تجارية تحيط بها.
وتطرق الرشق إلى تقطيع أوصال أحياء القدس وقتل كافة مناحي الحياة فيها بهذا اليوم، وإلى استفزازات المستوطنين في طريقهم للصلاة عند حائط البراق والمتمثلة بالاعتداءات اللفظية من سب للذات الإلهية، وشتم للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، والاعتداء على كل من رفض إغلاق باب حانوته من تجار البلدة القديمة ليثبت وجوده كصاحب حق.
ولا تقف التضييقات على التجار عند حد إجبارهم على إغلاق محالهم في بعض الأعياد اليهودية وفقا للرشق، بل تمتد لتكاتف كافة الدوائر الحكومية الإسرائيلية لاستهدافهم بالضرائب والمخالفات التعسفية الرامية لتفريغ الأسواق منهم، لتصبح الطرق باتجاه المسجد الأقصى وحائط البراق خالية من الوجود العربي الإسلامي والمسيحي. وهذه التضييقات أدت حتى الآن إلى إغلاق 352 محلا تجاريا داخل البلدة القديمة في ظل الاحتضار المستمر للحركة الشرائية فيها.
ويحل يوم الغفران هذا العام مع غروب شمس اليوم الأحد، وينتهي الصيام مع غروب شمس يوم غد الاثنين، ويتعمد المتطرفون تنفيذ اقتحامات جماعية للمسجد الأقصى في هذين اليومين باعتباره “مقدّسا يهوديا”، وبلغ عدد المقتحمين للمسجد عشية يوم الغفران عام 2022 المنصرم 548 متطرفا ومتطرفة، وفي يوم الغفران 461 مقتحما. وحرص المتطرفون خلال يوم الغفران على اقتحام ساحات أولى القبلتين بالثياب الكهنوتية البيضاء، وعلى النفخ في البوق وأداء صلوات توراتية بصوت مرتفع داخل المدرسة التنكزية وهي أحد معالم المسجد الأقصى التي اقتُطعت منه بقوة الاحتلال.